فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أولئك حبطت} أي: بطلت {أعمالهم} أي: الأعمال التي عملوها من أعمال البر وافتخروا بها مثل العمارة والحجابة والسقاية، وفك العناة مع الكفر لا تأثير لها {وفي النار هم خالدون} لجعلهم الكفر مكان الإيمان.
واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنّ مرتكب الكبيرة من أهل الإيمان لا يبقى مخلدًا في النار من وجهين: الأوّل قوله تعالى: {وفي النار هم خالدون} يفيد الحصر أي: هم فيها خالدون لا غيرهم، ولما كان هذا واردًا في حق الكفار ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر. الثاني: أنه تعالى جعل الخلود في النار جزاء للكفار عن كفرهم، فلو كان هذا الحكم جزاء لغير الكافر لما صح تهديد الكافر به. وفي الكشاف: أن الكبيرة تهدم الأعمال وهو جار على مذهبه الفاسد، ولما بيّن تعالى أن الكافر ليس له أن يعمر مساجد الله بين المستحق لعمارتها بقوله تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش} أحدًا {إلا الله} أي: إنما تتم عمارتها لهؤلاء الجامعين بين الكمالات العملية والعلمية.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم مع أنّ الإيمان به شرط في صحة الإيمان؟
أجيب: بأنه تعالى لما ذكر الصلاة والصلاة لا تتم إلا بالتشهد وهو مشتمل على ذكره كان ذلك كافيًا، ومما علم من أن الإيمان بالله تعالى قرينه وتمامه الإيمان به فكان الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مذكورًا بطريق أبلغ وهو طريق الكناية لما مرّ من مقارنتهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر. وقيل: إن المشركين كانوا يقولون: إنّ محمدًا إنما ادّعى رسالة الله طلبًا للرّياسة والملك، فلذلك ترك ذكر النبوّة فكأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوّة تنبيهًا للكفار على أنه لا مطلوب له من الرياسة.
فإن قيل: كيف قال تعالى: {ولم يخش إلا الله} والمؤمن يخاف الظَلَمة والمفسدين؟
أجيب: بأن المراد من هذه الخشية الخوف والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله تعالى عنه رضا غيره لتوقع مخوف. وإذا اعترضه أمران: أحدهما: حق الله تعالى، والآخر: حق نفسه؛ أن يخاف الله تعالى، فيؤثر حق الله تعالى على حق نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفي تلك الخشية عنهم. ومن عمارة المساجد: ترميمها وفرشها وتنويرها بالسرج التي لا سرف فيها، وإدامة العبادة فيها والذكر. ومن الذكر درس العلم فيها، بل هو أجله وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن المساجد لأجله كحديث الدنيا.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي في آخر الزمان ناس من أمّتي يأتون المساجد، فيقعدون حلقًا ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة».
وفي الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش».
وفي الكشاف: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: إنّ بيوتي في أرضي المساجد، وإنّ زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره».
قال شيخ شيخنا ابن حجر: لم أجده هكذا، وفي الطبراني عن سلمان رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم زائره».
وروي عنه صلى الله عليه وسلم: «من ألف المسجد ألفه الله تعالى».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان».
وعن أنس رضي الله عنه: من أسرج في مسجد سراجًا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوءه.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد وراح أعد الله تعالى له نزلًا من الجنة كلما غدا وراح».
وفي قوله تعالى: {فعسى أولئك} أي: الموصوفون بهذه الصفات {أن يكونوا من المهتدين} تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسم أطماعهم والانتفاع بأعمالهم التي قد استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها، فإنه تعالى بيّن أن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع وضموا إليه الخشية من الله تعالى، فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائرًا بين لعل وعسى، فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ويجزمون بفوزهم بخير من عند الله ومنع للمؤمنين من أن يغترّوا بأحوالهم ويتكلوا عليها، وذكر المفسرون في سبب نزول قوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله} أقوالًا، فعن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملًا بعد أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملًا بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فنزلت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال العباس حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام وبالهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج، فنزلت. وقيل: إن المشركين قالوا لليهود: نحن علينا سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه، فقالت لهم اليهود: أنتم أفضل، فنزلت. وقيل: إنّ عليًا قال للعباس رضي الله عنهما: يا عم، ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألست في أفضل من الهجرة أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام، فلما نزلت قال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرًا» وكان العباس عم النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده سقاية الحاج وكان يليها في الجاهلية فلما جاء الإسلام وأسلم العباس أقره صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم جاء السقاية فاستسقى، فقال العباس رضي الله عنه لابنه الفضل: يا فضل، اذهب إلى أمّك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال له صلى الله عليه وسلم: «اسقني» قال: يا رسول الله يجعلون أيديهم فيه، قال: «اسقني» فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: «اعملوا فإنكم على عمل صالح».
وعن أبيّ بن عبد الله المزني رضي الله عنه قال: كنت جالسًا مع ابن عباس عند الكعبة، فأتاه أعرابي، فقال: مالي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم أم من بخل؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل، إنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشربه وسقى فضله أسامة وقال: أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوه، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبيذ: تمر ينقع في الماء غدوة وهو حلال، فإن غلا وخمر حرم.

.تنبيه: [في السقاية والعمارة]:

السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية، فلابد من مضاف محذوف تقديره أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله: {لا يستوون عند الله} أي: لا يستوي حال هؤلاء الذين آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله بحال من سقى الحاج وعمر المسجد الحرام وهو مقيم على كفره؛ لأنّ الله تعالى لا يقبل عملًا إلا مع إيمان به وبيّن عدم تساويهم بقوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الظالمين} أي: الكفرة ظلمة بالشرك ومعاداة النبيّ صلى الله عليه وسلم منهمكون في الضلال، فكيف يساوون الذين عاهدهم الله تعالى ووفقهم للحق والصواب؟ وقيل: المراد بالظالمين الذين يسوّون بينهم وبين المؤمنين.
{الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله} أي: أعلى مرتبة وأكثر كرامة ممن لم يستجمع هذه الصفات والمراد من كون العبد عند الله بالاستغراق في عبوديته وطاعته، وليس المراد منه قطع العندية بحسب الجهة والمكان؛ لأنّ الأرواح البشرية إذا تطهرت من دنس الأوصاف البدنية أشرقت بأنوار الجلال وتجلى فيها أضواء عالم الكمال، وسرت من العبودية إلى العندية. وقيل: أعظم درجة عند الله ممن افتخر بالسقاية وعمارة المسجد الحرام.
فإن قيل: على هذا كيف قال في وصفهم أعظم درجة مع أنه ليس للكافر درجة؟
أجيب: بأنّ هذا ورد على حسب ما كانوا يقدّرون؛ لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله. ونظيره قوله تعالى: {الله خير أم ما يشركون}، وقوله تعالى: {أذلك خير نزلًا أم شجرة الزقوم}.
{وأولئك} من هذه صفتهم {هم الفائزون} أي: بسعادة الدنيا والآخرة.
{يبشرهم} أي: يخبرهم {ربهم} والبشارة الخبر السار الذي يفرح الإنسان عند سماعه وتستبشر بشرة وجهه عند سماع ذلك الخبر السار، ثم ذكر سبحانه وتعالى الذي يبشرهم به بقوله تعالى: {برحمة منه ورضوان}، فهذا أعظم البشارات؛ لأنّ الرحمة والرضوان من الله تعالى سبحانه وتعالى على العبد نهاية مقصودة {وجنات} أي: بساتين كثيرة الأشجار والثمار {لهم فيها} أي: الجنات {نعيم} أي: جزاء خالص عن كدر مّا {مقيم} أي: غير منقطع. وقوله تعالى: {خالدين فيها} حال مقدرة وحقق الخلود بقوله تعالى: {أبدًا}، ولما ذكر تعالى هذه الأحوال، قال: {إنّ الله عنده أجر عظيم} وناهيك بما يصفه الله بالعظم وخص هؤلاء المؤمنين بهذا الثواب المعبر عن دوامه بهذه العبارات الثلاث المقرونة بالعظم والاسم الأعظم، فكان أعظم الثواب؛ لأنّ إيمانهم أعظم الإيمان. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)}
قرأ الجمهور {يَعْمُرُواْ} بفتح حرف المضارعة وضم الميم من عمر يعمر.
وقرأ ابن السميفع بضم حرف المضارعة من أعمر يعمر: أي يجعلون لها من يعمرها.
وقرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وسهم ويعقوب {مَسجد الله} الإفراد.
وقرأ الباقون {مساجد} بالجمع، واختارها أبو عبيدة.
قال النحاس: لأنها أعمّ، والخاص يدخل تحت العام، وقد يحتمل أن يراد بالجمع المسجد الحرام خاصة، وهذا جائز فيما كان من أسماء الأجناس كما يقال: فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسًا قال: وقد أجمعوا على الجمع في قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله} وروي عن الحسن البصري أنه تعالى إنما قال: {مساجد} والمراد: المسجد الحرام، لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد.
قال الفراء: العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم: فلان كثير الدرهم وبالعكس، كقولهم فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكًا واحدًا.
والمراد بالعمارة إما المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي، وهو ملازمته والتعبد فيه، وكلاهما ليس للمشركين، أما الأول: فلأنه يستلزم المنة على المسلمين بعمارة مساجدهم، وأما الثاني: فلكون الكفار لا عبادة لهم مع نهيهم عن قربان المسجد الحرام، ومعنى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} ما صح لهم وما استقام أن يفعلوا ذلك، و{على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} حال: أي ما كان لهم ذلك حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر، بإظهار ما هو كفر من نصب الأوثان والعبادة لها، وجعلها آلهة، فإن هذا شهادة منهم على أنفسهم بالكفر، وإن أبوا ذلك بألسنتهم، فكيف يجمعون بين أمرين متنافيين: عمارة المساجد التي هي من شأن المؤمنين، والشهادة على أنفسهم بالكفر التي ليست من شأن من يتقرّب إلى الله بعمارة مساجده.
وقيل: المراد بهذه الشهادة قولهم في طوافهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك: تملكه وما ملك؛ وقيل: شهادتهم على أنفسهم بالكفر: أن اليهودي يقول هو يهودي، والنصراني يقول هو نصراني، والصابئ يقول هو صابئ، والمشرك يقول هو مشرك: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم} التي يفتخرون بها، ويظنون أنها من أعمال الخير: أي بطلت ولم يبق لها أثر {وَفِى النار هُمْ خالدون} وفي هذه الجملة الإسمية مع تقديم الظرف المتعلق بالخبر تأكيد لمضمونها.
ثم بين سبحانه من هو حقيق بعمارة المساجد فقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الآخر} وفعل ما هو من لوازم الإيمان من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة {وَلَمْ يَخْشَ} أحدًا {إِلاَّ الله} فمن كان جامعًا بين هذه الأوصاف، فهو الحقيق بعمارة المساجد.
لا من كان خاليًا منها أو من بعضها، واقتصر على ذكر الصلاة والزكاة والخشية تنبيهًا بما هو من أعظم أمور الدين على ما عداه مما افترضه الله على عباده؛ لأن كل ذلك من لوازم الإيمان، وقد تقدّم الكلام في وجه جمع المساجد، وفي بيان ماهية العمارة، ومن جوّز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل العمارة هنا عليهما، وفي قوله: {فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم، فإن الموصوفين بتلك الصفات إذا كان اهتداؤهم مرجوًّا فقط، فكيف بالكفار الذين لم يتصفوا بشيء من تلك الصفات.